مرحلة جديدة ومهام جديدة

_هذا المقال صدر في الأوّل من نيسان-

بعد الإطاحة بسلالة الأسد التي دامت 54 عامًا، نحن الآن في مرحلة سياسية جديدة كليًا في سوريا. لقد بدأت الثورة في مارس/آذار 2011 كجزء من مسار الثورات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وانتهت بعد 14 عامًا من الصراع المرير، بهروب الأسد إلى روسيا ومغادرته البلاد

لقد دفع الشعب السوري ثمنًا باهظًا لنضاله. فقد تسببت سياسة “الأسد أو نحرق البلد” في مقتل ما يقرب من مليون شخص، وتهجير أكثر من 10 ملايين شخص، وإجبار أكثر من 5 ملايين على مغادرة البلاد. بعد سقوط النظام، تمكن تحالف عسكري من قوى المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام من السيطرة على السلطة والحفاظ عليها. ومنذ اليوم الأول، تصرف أحمد الشرع كرئيس بحكم الأمر الواقع. حكومة الإنقاذ السورية هي حكومة برجوازية جديدة تهيمن عليها هيئة تحرير الشام

“الانتقال السياسي” و”الحوار الوطني”

عززت الحكومة الجديدة سلطتها، متجنبة الصراعات المفتوحة مع القطاعات الداخلية والخارجية. وبدلًا من القضاء على البيروقراطية البعثية، حاولت احتواءها قدر الإمكان، باستثناء عدد قليل من كبار المسؤولين ومجرمي الحرب. وحافظت على سياسة التفاوض والحوار مع قوات سورية الديمقراطية (قسد) اللتي تسيطر على شمال شرق البلاد، وكذلك مع القيادات الاجتماعية والعسكرية للجبهة الجنوبية وزعماء الأقليات. وقد طبقت السياسة نفسها في العلاقات الدولية، مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال زيارة المملكة العربية السعودية وتركيا

إلى متى ستستمر القيادة السياسية السورية الجديدة في هذا “الانتقال” القائم على التفاوض؟ هل ستكون هناك انتخابات ديمقراطية وحرة؟ في البداية أُعلن أنها ستُجرى في الأول من مارس، ثم تأجلت لأربع سنوات. وبعد تصاعد الانتقادات، بدأ الشرع يصرّح بأن عملية “الحوار الوطني” الشامل ستحدد الإطار السياسي الأساسي لهذه المرحلة الجديدة.

في 25 شباط/فبراير، عقدت حكومة الشرع مؤتمر الحوار الوطني في دمشق بحضور 600 مشارك اختارتهم الحكومة. ولم يشهد هذا المؤتمر تمثيل قادة قوات سورية الديمقراطية الكردية أو قادة الجنوب، ولا حضور قطاعات مهمة من المعارضة. وكان آخر الأحداث المهمة خلال ذلك حلّ حكومة الإنقاذ في 29 آذار/مارس وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، ضمت 23 وزيراً وامرأة واحدة فقط، وتسعة مستقلين وسبعة أعضاء من هيئة تحرير الشام (الحكومة السابقة)، واللافت أن خمسة وزراء سابقين من نظام الأسد قبل عام 2011 كانوا من وزراء نظام الأسد. ولم توضح حكومة الشرع حتى الآن توقيت أو تفاصيل العملية الدستورية أو الانتخابات الوطنية.

إن من أهم العقبات التي تقف أمام محاولات حكومة الشرع لبناء نظام استبدادي جديد هي إنجازات الثورة: إطلاق سراح مئات الآلاف من المعتقلين السياسيين وإغلاق السجون، وبداية ممارسة الشعب السوري لحرية التعبير والتنظيم، وبداية عودة المعارضين والشعب. ومن هذا المنطلق، لن يتسنى ضمان الحقوق الديمقراطية ومحاكمة جرائم النظام السابق وحماية حقوق الأقليات القومية والدينية والمرأة إلا من خلال التفاف الشعب السوري حول هذه المطالب. وفي مواجهة محاولة قيادة الشرع الاستيلاء على السلطة السياسية من خلال الوقائع المنجزة، يصبح مطلب إجراء انتخابات حرة من أجل عقد جمعية تأسيسية حرة وذات سيادة مطلبًا ملحًا أيضًا.

محاولات إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية

السعي إلى إعادة بناء القوات المسلحة وقوات الأمن

كان اختفاء الجيش وقوات الأمن بعد سقوط النظام سمة مميزة للعملية الثورية السورية. وبالنظر إلى أن احتكار العنف من خلال قوات الجيش والشرطة هو سمة أساسية من سمات الدولة الرأسمالية، فليس من المفاجئ أن يكون الاهتمام الأساسي لحكومة الشرع هو بالتحديد تأمين هذا الاحتكار. وبالتالي، فإن أولوية حكومة الشرع من خلال السعي إلى حل الوحدات المسلحة المستقلة، ليس ضمان ”سلام وأمن“ الشعب، بل نزع سلاح معارضيها، وفي نهاية المطاف، الشعب أيضًا.

وفي الوقت الحالي، تعمل وحدات الجبهة الجنوبية وقوات سوريا الديمقراطية الكردية والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا بشكل مستقل عن حكومة الشرع. وبالمثل، تحافظ العناصر العسكرية الموالية للنظام السابق على وجودها. وفي الواقع، حاولت هذه الجماعات في أوائل مارس/آذار الماضي القيام بانتفاضة عسكرية في المنطقة الساحلية، حيث تسود الأقلية العلوية. وقد أسفر تدخل الوحدات الإسلامية المتطرفة المتحالفة مع الحكومة الجديدة في المنطقة عن مجزرة راح ضحيتها المئات من المدنيين العلويين. هذه الأحداث مستهجنة تمامًا. ورغم إعلان حكومة الشرع عن تقديم المسؤولين عن الجريمة إلى العدالة، إلا أن المخاوف على سلامة الأقليات وانعدام الثقة في السلطات الجديدة لا تزال قائمة.

وقد وقعت حكومة الشرع الشهر الماضي اتفاقيات مع قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الجبهة الجنوبية لإنشاء ”جيش وطني“. ومع ذلك، لم يتم إحراز أي تقدم ملموس في هذا الاتجاه حتى الآن. وبالتالي، فإن حكومة الشرع تعتبر إنشاء قوات مسلحة وشرطة تحت سيطرتها ضمانة لعملية ”الحوار الوطني“ وتوطيد سلطتها السياسية. لا يمكن تحقيق ”السلام والأمن“ للشعب السوري من خلال احتكار حكومة الشرع البرجوازية الرجعية للعنف، بل من خلال تعزيز قدرة الشعب على الإدارة الذاتية والدفاع عن النفس.

الإمبريالية والصهيونية والعلاقات مع القوى الإقليمية.

حتى الآن، بذلت حكومة الشرع كل ما في وسعها لإقامة ”علاقات جيدة“ مع القوى الإمبريالية والصهيونية والقوى الإقليمية. لدرجة أنها تركت الباب مفتوحًا أمام إمكانية التفاوض مع روسيا – أحد المتسببين الرئيسيين في تدمير البلاد – حول مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا. ونتيجة لهذه الجهود، بدأت المساعدات المادية والإنسانية من دول الخليج والحكومة التركية بالوصول إلى البلاد منذ اليوم الأول. كما قرر الاتحاد الأوروبي رفع عقوباته الاقتصادية، وتناقش حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا القيام بذلك.

ولكن، إلى أي مدى تتوافق هذه السياسة مع طموح الشعب السوري في السيادة على أرضه؟ فلا تزال القوات الأجنبية موجودة بقوة في سوريا. القوات الأمريكية لا تزال متمركزة في شمال شرق البلاد، مستقبل القواعد الروسية لا يزال غامضًا، القوات التركية باقية في الشمال، والأسوأ من ذلك، أن الدولة الصهيونية تواصل توسعها في جنوب البلاد. ومع سقوط نظام الأسد، الذي كان قد قبل باحتلال مرتفعات الجولان ولعب دور حارس الحدود الشمالية لإسرائيل، صعّد الكيان الصهيوني هجماته ضد سوريا. فإلى جانب تدمير القوات الجوية والبحرية السورية بالكامل تقريبًا من خلال القصف، وسّع احتلاله إلى ما وراء الجولان. ومؤخرًا، أعلن نتنياهو أن نزع سلاح جنوب سوريا شرط أساسي، ورفع مستوى عدوانه عبر استفزازات إضافية وصلت حتى قصف مناطق في دمشق. ورداً على هذه الاستفزازات الصهيونية، اندلعت احتجاجات في عدة مناطق من البلاد، لا سيما في الجنوب، رفضًا للاحتلال الإسرائيلي، وشهدت هذه الاحتجاجات أيضًا دعوات للرد المباشر على إسرائيل. حتى الآن، اكتفت حكومة الشرع بإصدار بيانات خجولة في مواجهة الهجمات الإسرائيلية. لذلك، يُعد أحد المطالب الأكثر إلحاحًا هو الانسحاب الفوري لجميع القوات الأجنبية من البلاد، بدءًا بإسرائيل، واستعادة السيادة الوطنية السورية.

إعادة الإعمار الاقتصادي ومهام المرحلة الجديدة

لم يترك نظام الأسد كارثة إنسانية فحسب، بل دمارًا اقتصاديًا هائلًا أيضًا. ففي السنوات الأخيرة من حكمه، ومع انهيار الليرة السورية، فقدت العملة قيمتها بالكامل تقريبًا، وبلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من 90%، وحتى الفئات الاجتماعية التي استفادت سابقًا من النظام لم تعد قادرة على الحصول على الغذاء أو الطاقة.

ومع ذلك، فإن الاحتياجات الملحة للشعب السوري والقطاعات المستغلة التي دفعت ثمناً باهظاً لإسقاط نظام الأسد باسم ”الحرية والكرامة“ تتطلب برنامجاً اقتصادياً مختلفاً تماماً. هذا البرنامج لا يمكن أن يكون له أي أساس آخر غير برنامج مناهض للرأسمالية: مصادرة جميع أصول الأقلية الأوليغارشية الأسدية دون تعويضات وإعادتها إلى الشعب؛ وإلغاء الديون لإيران وروسيا، المتسببين الرئيسيين في تدمير البلاد؛ ومصادرة الشركات المرتبطة بهذين البلدين دون تعويضات؛ وتعليق مدفوعات الدين العام واستخدام كل هذه الموارد لتلبية احتياجات الشعب السوري الملحة للأجور والغذاء والرعاية الصحية والتعليم والإسكان.

هذه مهام ملموسة ولا يمكن تجنبها والتي يفرضها حجم الدمار. لا يمكن تنفيذ هذه المهام الجسيمة والمطالب الديمقراطية والاجتماعية في هذه المرحلة الجديدة إلا من خلال تعبئة الشعب السوري، إذا ما توسعت اللجان الشعبية المحلية مرة أخرى – كما حدث في بداية الثورة – وإذا ما ظهر اليسار السوري كبديل سياسي حقيقي.

Yorumlar kapalıdır.